يا راهب الدير هل مرت بك الإبلُ ؟!




كان الرُهبان مقصد سؤالات العُشاق والرحالة ، يطرقون أبوابهم يسألون عن أثر الأظعان وأخبار العربان  ، لعلهم يجدون آمالهم عند هؤلاء الرهبان الذين تقوقعوا في الصحراء لممارسة عباداتهم ... ! .

 هؤلاء الرهبان على معرفة تامة بتلك القوافل التي تمر بجانب الدير !! وتحمل هذه القوافل على ظهورها " القوارير ـ النساء ـ " .. فيُنشد العاشق ذاك الراهب ويسأله !..  فإن كان الراهب لا علم له بخبر هذه الأظعان .!.. عاد العاشق يجر نفسه وهو يردد قول جرير  : 

لقد كتمت الهوى حتى تهيمني        لا أسـتـطـيـع لهذا الحب كتمانا
لو كنت أعـلــم أن الحب يقتلني   أعددت من قـبـل أن ألقاك أكفانا

أو ذاك الشاب الذي هدَّه الشوق يُنشد الراهب في صومعته عن أثر الأظعان وقال :

لمَّا رأيتُ القومَ قد رحلوا                   وراهبُ الدَّير بالناقوس مُشتغِلُ
شبكتُ عَشري على رأسي وقلتُ له :   يا راهب الدير .. هل مرَّت بك الإبلُ ؟!
فحنَّ لي وبكى .. بل رق لي ورثى    وقال لي : يا فتى ضاقت بك الحِيل
إن الخيام التي جئت تطلبهم             بالأمس كانوا هنا .. واليوم قد رحلوا



وكذلك الرُهبان على معرفة تامة بالقبائل العربية ، فقد كانت القبائل العربية المتواجدة بالقرب من أديرة الرُهبان تقوم بحمايتهم ولهم  مبلغ من المال ، ولأن الرهبان لا يبنوا أديرتهم إلا في الأماكن البعيدة عن المُدن والقريبة من البادية  .

وقد كانت عادة العربان أنها تحرس الأديرة مُدة أربعة أشهر وإذا اكتملت إما أن يُجددوا دورة الحراسة أو لا ، ويختاروا غيرهم من العُربان المجاورة للحماية .

فقد كانت قبائل جُذام كـ ( الترابين ، الوحيدات ، بني واصل ، العائد ... الخ ) تقوم بحراسة " دير سانت كترين " في جبل موسى بسيناء ، فقد جاء في ( سجلات رُهبان دير سانت كترين )[1] ( ص 9) : ( حضرت ورقة من الدير وفيها أن حضر لهم من بدنة الترابين خاطر " الأعمى " وأخذ غفرته وعوائده من الدير عن سنة وألف وتسع وأربعين ( 1049هـ ) مغلق بالتمام ) ..

وجاء أيضاً : ( حضرت ورقة من الدير يُذكر فيها أن الترابين حضروا الدير وأخذوا غفرتهم من الأقلوم ، أخذها سالم بن اللامي ، شاش وطاقية وقصبتين وذلك عن سنة خمس وستين وألف ( 1065هـ ) شهد بذلك نصار بن منصور الصالحي وشهد بذلك عبدالدايم السعيدي ) .

قلت : ( اللامي ) من أبناء سالم أبو زوير الحسبلي الترباني   .

وكذلك جاء في ( ص59)[2] : ( حضر إلى مصر معيليش بن صقر الوحيدي من الفقرا ، وقبض استلم غفرته من الأقلوم بريتوس وذلك الجاري على العادة وذلك سنة ألف وثمان وخمسين ( 1058هـ ) وذلك بحضور المقدم رمضان تابع الدشيشة الكبرى ، وذلك بضمانة محمود العديسي بن فرحان الترباني ، حُرر ذلك في ثالث عشر من شهر جمادى الآخر سنة التاريخ أعلاه ، وشهد على نفسه معيليش منا إن جاء أحد وراءه وطلب العدد المذكور أعلاه يكون عليه قرش بعشرة في ضمانة محمود العديسي والمقدم رمضان ) .

قلت : والوحيدات " الفقرا " وهم الآن القاطنين بغزة ومنهم الأمير واكد الوحيدي ، وكذلك العديسي الترباني وهم شيوخ قبيلة الترابين في القرن العاشر والحادي عشر ، والوحيدات والترابين من بطون بني عطية من جُذام ، وهم من أهل هذه الديار من سالف الأزمان وما زالت معالم هذه القبائل ثابتة في شمال الحجاز وحسمى كـ ( حمرا الوحيدي وجبل تربان .. الخ ) .

وأحيانا تأخذ العربان " الغُفرة " من الرهبان عنوة .

وقد ذكر شيخو في ( النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية )[3] بعض أديرة الرُهبان في سيناء وجنوب فلسطين والقبائل العربية التي كانت هذه الديار من أحواشها كـ ( جذام و لخم وكلب ) .

وقد صنَّف العلماء في الأديرة من أمثال أبو الفرج الأصفهاني حيث صنف كتاباً سمَّاه ( الديارات ) وكذلك كتاب ( الديارات ) للشابشتي وكذلك كتاب ( الخزل والدأل بين الدور والدارت والديرة ) لياقوت الحموي .

·     لطيفة :
ذكر ياقوت في ( الخزل والدأل )[4] ناقلاً قول المازني : ( دخلت دير بُصرى بحوران ، فرأيت في رهبانه فصاحة وبيان لسان ، وهم من بني الصادر من العرب الذين تنصروا في الجاهلية ، فقلت لهم : ما لي لا أرى فيكم شاعراً على ما فيكم من فصاحة ولسنٍ ؟! فقالوا : ما فينا أحد يقول لنا إلا امرأة عجوز ، فطلبت إحضارها ، فجاءت فحادثتها فوجدت فيها فصاحة  تفوق أهل ديرها ، فاستنشدها فأنشدتني لنفسها أبياتاً منها :

أيا صحبةٌ من دير بصرى تحملت        تؤمُّ الحمى ، لقيت من صحبةٍ رشداً
إذا مت بلغتم سالمين فبلغوا             تحية من قد ظن ألا يرى نجداً
وقولوا : تركنا الصادري مقيداً         بكلَّ هوى في حبكم مضمراً وجدا

... الخ الأبيات ) .

فالرهبان والذين تقوقعوا في الأديرة على معرفة تامة بالقبائل العربية وخبر الأظعان .

فيا راهب الدير هل مرت بك الإبلُ ؟!

وكتبه :
أحمد بن سليمان بن صباح أبو بكرة الترباني .   







[1] ـ حقق جزء منه فيما يتعلق بالترابين الأخ شريف الترباني .
[2] ـ كما في ( ذكر قبيلة الترابين في دير سانت كترين ) للأخ شريف الترباني .
[3] ـ ( 1/18) .
[4] ـ ( 1/25)  وكذلك أورد هذا الخبر العُمري في ( المسالك ) .