المقامة البازية في فحوصات الحمض النووية




حَدثني الليث بن ضِرغام ، قال : أخبرنا الحُصين بن سرحان أن الباز بن رَيش بن شاهين قال : حَلَّقتُ مرة فوق بلاد فلسطين الغالية ، بين سهولها وجِبالها العالية ، وأبصرت في الجنوب من هذه البلاد ، بيوتًا من الشَّعرِ بينها الإبلُ والجياد ، فَهويتُ إلى نهرٍ يُعرف بـ " الشريعة " ووجدت عنده مِن الطيور الجارحة ، طيرًا يُعرف بـ " ابن السَّريعة " وهو من أكرَمِ  الجوارح جُرثومَةً وأطْهَرِهِم أرومةً ، مِن أحفاد الجارح بن عقاب وله معرفة واسعة في الأخبار والأنساب، أخذها من أفواه العُلماء ومُجالسة بنو منقذ الأمراء ، وقد كان يقف على أَطَّمة من الآطامِ ، وحوله أبناء عَمهِ في زِحام  .

[ استطراد ]

وابن السَّريعة صيته ذائع في الصيد، وأخبار جده الجارح عند الأمير أبي دلف العجلي في كتابه ( البزاة والصيد ) ، وقد قرأنا هذا الكتاب على شيخنا الحُر بن رِعاب في وكر الشيخ الجرودي بن رِكاب ، وأجازنا به من أوله إلى آخره ، وقد كتب لنا إجازة مُنظَّمة في كُل مروياته عن الجَّوارح المُعلَّمة .

وقد قرأتُ بخط ابن طيفور أن الجارح بن عقاب له المِرباع مِن صيد جوارح الطيور، وترجم له الحُر بن عَفر في كتابه " العِبر في ذِكر من له خَبر " وقال: ( عظيم القدر، شائع الذِكر، لم يكن ببادية فلسطين مثله في وقته، وكان يأخذ المِرباع مِن الجوارح والسّباع ) .


فقلت في نفسي : وجب أن أتعلم وآخذه لي مُعلمًا ، فهو حفيد لُقمان الحِكمة، وتُرجمان الهِمة ،وأسأله عن بعض البِدع والحوادث، التي جرَّها " البوم " على أنساب الطيور مِن كوارث، وهو ما يُعرف بــ " فحوصات الدي أن إي" وحتى صارت أنساب الطيور تُصنف على  ( جي ون وتي ون وبي إي ).


فتقدمت إليه وأنا أتخطى رقاب قومه وذويه، فنفَشت ريشي لأنتسب ، ومِن مناقب الأجداد أنتخب ، فقام ابن السَّريعة وَغَقَّ وإلى وجهي قد حملّق وقال : " هذا والله ابن ريش وقد كان بيني وبين آباءه مَلِّحٌ وعَيش " .


[ تنبيه ]

قال الباز بن ريش بن شاهين : اِعْلَمْ أن للانتساب آدابًا ، دونها بعض البشر في كتابًا ، ولكن الموقف الآن غير، وخاصة في عالم الطَّير، فإن مِن آداب الانتساب عند الطيور ، نفشُ الريش ولبس ثوب الغرور ، وهذه بيننا عادة ، جرى عليها فعل الأشراف والسادة .

فقال ابن السَّريعة ـ بعدما أكرمني وفي مَرتعهِ أشركني ـ : ما أقدمك ـ أعزك الله ـ في هذا الأوان ؟ أأصاب قومك الذُل والهوان ؟!

قال الباز بن شاهين : لا والله، نحن على ما عليه مِن شرفٍ وجاه، ولكن جئت لهذه البلاد المُباركة سائحًا، وعن علوم الرجالِ باحثًا، وعندي بعض الأسئلة وأحتاج لها من أجوبة.

قال ابن السّريعة : مَرحبًا يا طالب العِلم، الجواب إن شاء الله عندي، ولن أتركك تستفتي أحدًا بعدي.

قال الباز بن شاهين : أغار على ما دونه الجوارح من رسوم، بُغاث الطير وزعر البوم (!) زعموا أن ما دونه الجوارح الثقات، فيه الوضع و الجهل والمغالطات، وأن الحد الفاصل، بين الحق والباطل، نتائج ـ الحِمض النووي ـ مِن المصانعِ، بعيدًا عن الكتب وغيرها من المجامع، فهي أوثق من الجميع، وبها يُعرف الشريف مِن الوضيع!

غضب ابن السَّريعة وألقى عن ظهره شملته وقام وحمدَّل ليقول كلمته ، فقال : " ويلٌ للعرب مِن شرٍ قد أقترب " بعدما كانت أنسابنا تحسدنا عليها الأمم ، أصبحت اليوم تُصنف على حروف العجم ؟!! وبعدما كانت أنسابنا تُثبتها الطُرق الشرعية، صارت لا تَثبت إلا بالُطرق الوضعية ؟! وبعدما كانت أنسابنا تؤخذ من أفواه الجوارح الثقات، صارت لا تُقبل إلا من أفواه المصانع والآلات؟!!

قاطعت ابن السَّريعة وقلت : هذا عندهم به معمول، ولا أعرف هذا إلا للمجهول، ولا يلجأ له الصحيح، وصاحب النسب الصريح.

قال ابن السَّريعة : يُعمل به في مسألة الجَهالة، في أنساب فِراخ الحَضَانة، والجرائم الواقعة، في الديار الواسعة؛ لأن عملها ضيق محدود، وتعتمد على موجودٍ بموجود، ولا تستعمل على موجود، برجل له 500 سنة مفقود، أو حاضرٍ في غائب، تلك والله مصائب.

 ولا يُعمل به في العشائر والقبائل، وهذا معروف عند دهاقنة المسائل، وأعلم أن هذه الفحوصات زائلة ، وإذا قُطعت الكهرباء عنها ضائعة ، والبقاء للطرق الشرعية ، الشُهرة والاستفاضة المرعية ، والشهادة والأقوال المروية ، إذا خلت من الجرح والمخالفات ، والنقض والمغالطات ، فهي أنساب نظيفة، ثابتة شريفة ، لا يقدر أحدٌ على غمزها ، ولا التشكيك فيها أو لمزها ، فهي كالشمس في رائعة النهار، موثقة بالحجج والأخبار.

ولا يلجأ لهذه الفحوصات ـ الحمض النووي ـ إلا من كانت أنسابهم ضائعة، ليس لها خبرٌ في كتب الثقات، فقالوا عنها زائغة !!، فهل يُعقل أن يذهب الجارح الصريح؟، وصاحب النسب الصحيح ؟، ليبحث عن نسبه بين الآلات، تحت دوي ضجيج الماكينات، إلا إذا شكَّ في نسبه، وتردد في عرضه وشرفه، فلا حاجة للجوارح الصريحة، والمذكورة أنسابها في الكتب الصحيحة، لهذا العبث الظاهر، والجهل الأقرع السافر .!

وخُذ هذا القول من نسّابة خبير، يُعرف بالهاشمي الأمير، كتب للأصحاب في حُكم هذا الجين في الأنساب، وقال : ( وصاحب النسب الثابت المشهور لا حاجة له بالحمض النووي، لأن نسبه ثابت ومشهور، إلا إذا علم أن نسبه غير ثابت وحط من قدره ووضع نفسه في محل مجهول الأصل!! ولا أظن عاقلًا يضع نسبه في دائرة (مجهول الأصل)؛ فديننا صان الأنساب ورفع قدرها، والأنساب الصحيحة المشهورة - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت٧٢٨هـ) - أمرها ظاهر متدارك مثل الشمس لا يقدر العدو أن يطفئه. وصاحب النسب والدين لو أراد عدوه أن يبطل نسبه ودينه وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلك، فإن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي لنقله، ولا يجوز أن تتفق على ذلك أقوال العلماء (.

وقال أيضًا: ( وفي الختام أقول لهذا المغتر بالحمض النووي: الاعتماد على هذا الحمض النووي في تحديد أصول الأنساب ومن ينتمي إليها من العبث المعاصر بعلم الأنساب؛ فلا تجافي شريعتك العظيمة التي ضبطت هذا العلم وخدمته عبر مئات القرون أخي وتركن لعلم حادث، يحتمل الصحة في هذا الباب من عدمه، ولدينا الأصول العلمية الشرعية في ضبط الأنساب ومعرفتها إثباتًا ونفيًا، سيما وقد يتلاعب بذلكم الحمض النووي بالزور لخلط الأنساب وتزويرها!
ثم إن كان لهذا الحمض فائدة في الأنساب؛ فإنها لن تكون إلا في جزئية ضيقة، وهي معرفة الابن لأبيه فقط حين الإنكار، ومع هذا؛ فإن القضاة في هذه الجزئية لا يعدونه دليلًا ولا قرينة،وإنما يستأنس به، لأن هناك نصوصًا شرعية واردة في مثل هذه الحادثة منها قول النبي : (الولد للفراش)، وقد المجمع الفقهي الإسلامي على أن هذا الحمض لا يثبت الأنساب البعيدة أبدًا إنما يستأنس به في نطاق ضيق جدًا حينما ينكر الأب الابن
( .


قال الباز بن شاهين : قرأتُ لشيهانة مِن مُطير، أهلها مِن عِتاق الطير، ذكرت أن هذه الفحوصات من العبث، وتنزيلها على الأنساب جهلٌ وخبث، وهي للعلم الجيني دَرسّت، ومن الجامعات تخرجّت، وأما أصحاب تلك المنتديات الجيّنية، لم يدرسوا هذا العلم من جامعاته العلمية، وإنما راسلوا المصانع والشركات، ودونوا النتائج الصادرة من الآلات، وزعموا أنهم فيه فلاسفة علماء، وهم جهلة وحمقى وأصحاب أهواء.


[ النهاية ]

ودَّع الباز " ابن السّريعه " ورواته، ووضع أوراقه على ظهره ودواته، وطار وهو في طَرب، إلى جُبل يُعرف بـ " جبل العَرب " يسكن فيه طيرٌ هَرم، مُنكمشٌ ثَرِم، أنساب الجوارح عنده في رسوم، مٌشجرة بخطٍ موسوم، فيها أسماء طيور من البوم، والتي من جنسها انسلخت، وإلى الصقور كذبا انتسبت.

صاغها:

أبو سهل أحمد بن سُليمان بن صبّاح أبوبكرة الترباني.