الْحمد للهِ رَبِّ العالمين وَ
الصّلاةُ وَآلسَّلامُ على رَسول الله وعلى آلهِ وصَحبهِ أجْمَعين وَبَعْدُ :
فَقَد جَرَتْ بَيْني وَبَينَ أحد
الأُخوَةُ مُدارَسةٌ حَولَ { الفجورُ في الخُصومَة
} المُنتشرة بَينَ { لُقطاءِ العِلم } حَيثُ إذ
لَمْ تُوافقهم في مَسّألةٌ وخَالفتُ أهوائِهم بِكلامْ عِلمّي رَصينْ .. يَنهالوا
عَلَيكَ بـ { الكَذب و التُهم } وغيرُ ذلِكَ من
أنواعُ { الفجور } ..
فَقُلتُ :
قالَ الرَب سُبحانه : ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (
المائدة8 ) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ " .
فالناسُ مَعادن كَمَعادن الذَهبُ
والفِضةُ والنُحاس والحَديد ، فَعِندَّمَا تَدَّعكَّ مَعدَنُ الرَجلُ إما بـ { خُصومةٌ أو تِجارة أو سفرٌ .. } يَتضحُ لكَ حقيقتهُ ..
فالرجلُ صاحِبُ مَعدنُ الذَهب لا
يَضُركَ ولا يَكذِبُ عليكَ ولا يتَهِمُكَ بِمَا لَيسَ فيكَ ، بَل تَجِدَهُ شَريفاً
وَذَهباً حَتى في خُصومتهِ مَعكَ .. فَالنَسبُ
الكريم له تأثير قَوي في أخلاقُ المُخاصم ، فَلا تَجدهُ فاجراً بَل أصلهُ الكريم
يُجبره بالعَدلِ والإنصافٌ في خُصومَتهِ ..
أما صَاحبُ المَعدنُ السيئ فلا
تَستَغربْ منهُ أي شيء ( ! ) من كَذب وفجور وخِسةٌ ... الخ ، فهوَ { إن خاصَمَ فَجَرْ } لأن أصولهُ خَسيسةٌ فَهيَ تُخرِجُ
ما في مَعادِنُها .. فَلا غَرابة ..
ومن نَماذِج خِسةُ المَعادن تَبرقع
بعضُ الأشخاص بـ { أسماء مُستعارة } كي يُفرغوا ما
طَفحَ من خِسة أصولُ معادنهم في خَصمهم ( ! ) ... فهم قد جمعوا ما بين { الجُبن و خِسة الأصول } ..
فالكريم وأصحاب معادنِ الذهبِ
والفضة من أطهرِ الناس في خُصومتهم ... وأما معادنُ النذالةُ والخِسة فإن خاصمتهم
، فلن تَجِدَ مِنهم إلا الكذب عليك واتهامك بِما ليسَ فيك ، لأنهم أهلُ خِسةٌ لا
يَستطيعوا أن يُجاروا العلمَ والأخلاق الكريمة ، فيلجأوا إلى التَشويش بالكذب
والفجور ...
وهذهِ بِضاعةُ مَعادنُ أهل الخِسة
والنَّذالة ..
وَمِن صِوَر العَدل في الخُصومَة ما
أورَدَهُ ابن هِشام في { السيرة } ( 644 ) { لَقيَ رَسولَ الله- صلى
الله عليه وسلم-نَفرٌ مِن المُسلِمين يُهَنئونَهُ
بَِما فَتَحَ الله عَلَيه في بَدر فَقَالَ لهَم سلمة بن سلامة: مَا الذي تُهنئوننا
بهِ ؟ فَوالله إن لَقَينَا إلا عَجَائِز صَلعا كَالبدن المُعَقلَة، فَنَحرنَاهَا،
فَتَبَسمَ رَسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثمَ قَال: أي ابن أخي ، أولئك
الملأ. قال ابن هشام : الملأ الأشراف
والرؤساء }.
فَقد أقَرَ رسولنا الكَريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ شَرَفِهم وَسيادَتهم رَغمَ
خُصومَتهِ لهم ، فَهذا مِن إنصاف أفضَلُ البَشر مُحمد ـ صلى
الله عليه وسلم ـ .
وهذا عبد الله بن الزَّبْعري كان
مِن أشدُ الشُعراء عَداوة للمُسلمين فقالَ يَصفُ المُسلمين في غَزوة أُحد :
كَمْ قَتَلْنَا مِنْ
كَرِيمٍ سَيِّدٍ مَاجِدِ
الجَدَّينِ مِِقْدَامٍ بَطَلْ
فَهو يَصِفُ المُسلمين بالشَجاعةِ
ونَجابةُ النَسبِ ، فَلم تَدفعهُ خُصومتهِ للكَذِب والتَهكم ووَصفهم بِما لَيس
فيهم ..
بل هذا الأسْوَدُ بنُ قُطْبَةَ
التميمي يُنصف { الفُرس ـ العجم ـ } " يوم
أُلَّيسٍ " فيقول :
لَقينا يَومَ
أُلَّيسٍ وَأَمغى وَيَومَ
المَقْرِ آسادَ النَهار
فَلَم أَرَ مِثلَها
فَضِلاتِ حَربٍ أَشُدّ عَلى الجَحاجِحَةِ الكِبارِ
فَهو يَصفُ شَجاعةُ { الفُرس } رَغم أنهم خُصوم ، وَلم تَدفعهُ الخُصومَة
للحَط مِن قَدرهم .. وهذهِ الشَواهد
والوَقائع مِن صِوَر العَدلِ في الخُصومة كَثيرة جِداً في أشرافُ العَرب ، فَقد
قالَ نَبيُنا ـ صَلى الله عليه وسلم ـ : ( إنَما
بُعِثتُ لأُتَمِمَ مَكارِم الأخلاق ) .
وَكَذلك ِمن طَهارةُ بَعض مَعادن شُعراء
البَدو في عِشقهم رَغم جَّورْ الحَبيب على قُلوبهم ورَغمُ الهَجرُ والتَنكيلُ ، لَّم
يَصدَّحوا إلا بأصالة أخلاقِهم وكَرمُ معادِنهم ، فَغَرَّدَّ أحدهم قائلاً :
عَسَى دَارَه تجودّ
مِن وَبلّ السُحب تَرتوي ؛ والقَاع يَلقونه خصيب
فَرغم جَّورُ الحَبيب ، يُغرد ذاكَ
البَدوي صاحب المَعدن الكريم ويَدعوا للمحب بأن تَسقي السُحب دياره وتُرويها ...
وَقد ذَكر رواة الأعراب قِصة رَجل تَخاصم مع زَوجَتهُ حَتى طَّلقها
وَهذا الرَجل مِن قَبيلةُ { بِلي القُضاعية }
وَهذه القَبيلة تَنتشرُ في شمال الحِجاز وفي الشام ولهم نواقل في { صعيد مصر } ؛ فَبعد مُدةٌ نَدَمَ ذاك الرجلُ على تَسرعه
وشَتمه لزوجَته وطّلاقهِ .. فَقالَ :
نَّوختْ سَمحة فوق
مَزموم الاطعاس أرمي نَظر عيني على قَد ظَني
جِيت المراح وشُفت به
مَشعة الرأس وذَّكّر عليّ جروحي يلّي مَضَنّي
فَبقايا شَعرُ زَوجتهِ حِينَ كانت
تَمتَشط ، هَيجتْ قَلبُ زَوجُها فَحَنَّ وَنَّدِمَ عَلى فِعلتهِ ..
فَرَدَ عليه والدُ زوجَتهِ حين
سَمِعَ أبياته هذهِ ، ومِنها هذا البَيت :
وحياة جَّلاب المطر مُغني
الناس يَافيكْ
نياتُ الردى ما طَّرَنّي
أي أن زَوجَتهُ لم تَفجُر في
الخُصومة وتُكيلُ التُهم والأكاذيب على زوجُها ، بل أكرَمتْ سِيرة زَوجُها .. فهذا أنموذَجاً من تِلك المَعادن الشَريفة في
الخُصومةِ والخِلافيات بأنواعِها .
وَلو استطردتُ في هذا النَّوعُ لما
كَفاني كُرَّاسة فيهِ ، وأحوالُ البدو في هذا كثير ..
وهذا { جَرير
والفرزدق } كَم وكم تهاجوا وذَموا بعضهم البعض ، وثارت الحُروب بينهما ،
فَلمّا مات { الفرزدق } رثاهُ جَرير بأبياتٌ ألذُ
من وَصلُ غانية وطيبُ عِناق ( ! ) فقالَ :
لَعَمْرِي لَقَدْ
أشجَى تَميماً وَهَدّها على نَكَباتِ الدّهرِ مَوْتُ الفَرَزْدَقِ
وهذا من طَهارةُ مَعدنِ جَرير ،
فَهو يَرثي ويَمدحُ خَصمهُ الفَرزدق رَغم الحُروب الشِعرية بينهما وَلم تَدفَعهُ
الخُصومَة للحَطِ مِن قَدرِ الفَرزدق أو الكَذِب عَليه ..
وَما أجملُ قَول الشاعِر :
إنَ الكَـريمَ إذا تمَكَنَ
مِن أذَى جَاءِتهُ أخلاقُ الكِـرَام فأقلَــعَا
فَالأخلاقُ عَزيزةٌ ، وأصبَحت
مَعادن الذَهب في الرجال اليوم كَالكبريت الأحمر ، وَقد شَاهدنا خُصوم من أكرم الناس خُلقاً
أهلُ عَدلٌ وإنصاف ، وشَاهدنا خُصوم من أخسِ خَلق الله ومن أحطّ المعادن والأصول ،
تَربوا على الكَذب والفجور والنذالة ، وتَجد أحدهم مُستعد بأن يُقسم بالله ويُباهل
كذباً على خَصمهِ .. فنعوذ بالله من هذه المعادن العَفِنة والتي تُصور لَكَ
دَناءةَ أصولها ..
وَكَتَبه :
أحمَد بن سُليمان بن صَباح أبو
بَكرة التُرباني .