الأمَالي التُربَانية ... { المَجلس الثالث } ... { التَّذييلُ عَلى رِسالة عَبد القَادر الجُنيد حَولَ شُبهة البُعدُ الزَمني } .




الْحمد للهِ رَبِّ العالمين وَ الصّلاةُ وَآلسَّلامُ على رَسول الله وعلى آلهِ وصَحبهِ أجْمَعين وَبَعْدُ :

فَقَد جَرَى بَيْني وَبَينَ الأخ الكَبيرْ الشَيخ { عَبد القادر الجُنيد العَلوي نَسباً والأثري مَنهجاً } اتِصالاً قَبلُ مُدةٌ وَكَان ضِمنُ الاتصال حَديثُنا عَن { الأنساب } وأخبَرَني عَن رِسالته وَالتي صَنَّفها في الرَد على فَتوى ( ابن جبرين ) قَبل زَمنْ فِي مَسألة { نَسبُ آل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ }   ..
وَقدْ أطَلَعتُ عَلى رِسَالته  وَقَد أجادَ في رَد تِلكَ الشُبه وَدَّوخها ، إلا أنَني أحبَبتُ أن أكمِلُ تَدويخُ هَذهِ الشُبه وَنَسفُ سَاسُها ؛ وَقَد أذِنَ لَنا الأخ الكَبير " عَبد القادر الجنيد " بِالتذييلُ على رِسالته ، وقال : { لَكَ الحُرية المُطلقة في ذلك } ..

وَنَشرَعُ في لُبْ المَقَال :

شُبهةُ { البُعدُ الزَمَنيّ } هَذهِ لا يُؤخَذَ بِها لِنَفيُ الأنَسّاب  ، فَهذا مَنهج بَاطل ، فَقَبائلُ العَرب بَاقيةٌ إلى يَوم القيامة ، ومَعروفةُ أنسَّابهُا إلى يَومِ القيَامة ولَكنَ يَحصلُ عَدَم الحِفظُ لسِلسِلةُ الَنسّب بَينَ القَبيلة اليَوم إلى جَذمُها القَديم وهَذا دّارج عِندَ { قَبائلُ البَادية } فأنسّابِهم محَفوظَةٌ ومَعروفَة في كُتب أهل النسّب الِثقَات لكنَ بِسَببِ عَدَمِ مَعرِفَتِهم بِالكِتَابةِ وتَدوينُ أنسّابِهم في الكَراريس يَفقِدون السِلسِلة الموصِلة للجَذمُ القَديم ، ولكنَ أنسّابِهم ثَابتةٌ لا يَنَتطِحُ فيهَا عَنزَان ..
وأما { الأشّرَاف ـ أبناء الحَسنُ والحُسينْ ـ رضي الله عنهما ـ } فَحُجَة البُعد الزَمَنيّ لا تَنطَبِقُ عَليهم أبداً وذلكَ لِعنايَتهم الشَّديدَة في أنسّابِهم وكَذلكَ عِنَايةُ العُلَمَاء في تَدوينُها وتَسّجيلُها في مُشّجراتِهم ..
فَتَجِد الهَاشِّمي يَحفَظُ سِلسِلةُ نَسَّبِهم إلى جِدهُ الأعلَى { عَلّي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ } وَتَجِد ذَلك في مُشَّجرَاتهم ومُدَّونةٌ في كُتبْ الأنسّابِ  ، وَهَذا مِمَا يَجعَلُ النَسّابَة يَكشّفُ { الأدّعِياء } الذينَ دَّحشّوا أصلابِهم في النَسَّب الهَاشّمي زورَاً .
وَقدّ يَحصِلُ بًعض الاختِلالُ أو السّقطِ في انسّاب الهَواشِّم ولَكن لا يَضرُ ذَلكَ بسَببِ امتِلاكِهم { الشُّهرةَ السَّليمة من الجَرح المُفسّر أو القَّدحِ ومُخَالفة أقوال أهلُ النَسّب } ..
فَقبائلُ العَرب بَاقيةٌ وأنَسّابِهم بَّاقية بِبَقائِهم ، والدَّليلُ على ذَلكَ :  

1ـ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا تقوم الساعة حتى يخرج رجلٌ من قحطان يسوق الناس بعصاه ) .

قلتُ : وهذا دَليل عَلى بَقاء حِفظُ النَسّب إلى يَوم القيَامة وبَقاء قَحطّان إلى يوم القيَامة ، فَالذي يَنفي الأنَسّاب أو يُشّككَ بها بحُجة { البُعد الزمني } يَلزَمهُ نَفي أنَسّاب { قَبَائلُ قَحطّان } للبُعدُ الزَمَني ، وَقَحطّان هُنا ليسَ المُرادُ بِها قَبيلة { قَحطّان اليَوم } فَهذهِ قَبيلة حمَلت الاسم القَديم ومَا هيَ إلا فِرعاً ، إنما المَقصود بـ { قَحطّان } هُنا عَامة  ، تلِكَ القَبائلُ القَحطّانِيةَ مثلُ { جُذام ، لخم ، عاملة ، طيء ، مذحج .... الخ } وهذا الحَديث يُبينَ أنَّ هذهِ القَبائل بِاقيةٌ إلى يَوم القيَامة ، فَالنَسّب بَاقي بِبَقاء العَرب ومَحفوظ بِبَقاء العَرب ، كَيفَ لا وهَيَ أغيرُ الأُمَم ؟!.
فَكَيفَ يَعرِفوا في آخرِ الزَمان أنَّ هَذا هوَ القَحطّانيّ الَذي أشَّارَ إليهِ نَبيَنا الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بِبَقاء هَذهِ القَبائل وبَقاء عِلم النَسّبِ ..

2ـ  قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :  (وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا .. ).

قلتُ : وفي هذا الحديث دلالة على بقاء قبيلة { مُزينة } إلى آخر الزمان ، ومُزينة اليوم جُلها في { مِصر } وشمال الحجاز وبطون متفرقة في طيبة دخلت في حرب حلفاً ، فمن يرفع راية هذه الشُبهة { البُعد الزمني } لزِمهُ أن ينفي مُزينة اليوم ( !! ) وهذا والله منهج لنسف قبائل العرب وتضليلُها وتضييع أنسابها ..

وأما قولُ الشيخ ابن جبرين : (ولا شك أن من يدعون أنهم من الهاشميين في دعواهم نظر وذلك لبعد النسب )[1] ( ؟ ) .

قلتُ : بُعد النسب هُنا هو { البُعد الزمني } والتشكيك في الأنساب بسبب هذه الحُجة منهج { سقيم } .. فالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ والتابعين كانوا ينسبون أنفسهم لأجدادهم الأوائل رغم البُعد الزمني بينهم وبين { قُرميتهم ـ أي الأصل القديم ـ } ولم نسمع بهذه الأقوال والشُبهة كـ { البُعد الزمني }( !! ) عندهم  .
فهذا الصحابي الجليل { عبد الله بن سلام } من عقب { نبي الله يوسف } كما بين ذلك أهل العلم[2] . والمُدة الزمنية بين الصحابي الجليل عبد الله بن سلام وبين جده نبي الله يوسف مدة بعيدة ، فهل سمعنا من العلماء أنهم شككوا في نسبه بحجة { البُعد الزمني ـ بُعد النسب } ؟؟؟!!! ..

فإذا كانوا بني إسرائيل يحفظون أنسابهم رغم البُعد الزمني فالعرب أكثر وأكثر في حفظ أنسابهم ، بل مَدَّ ذلك بأن جعلوا لخيولهم وكِلابهم السلوقية أنساب ..
ثم أن استشهاد البعض ( ! ) بخبر ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبته معد بن عدنان بن أدد ثم يمسك و يقول : كذب النسابون قال الله تعالى ( وقرونا بين ذلك كثيرا ) ... ) .  

قلتُ : هذا الخبر { موضوع } حكم عليه شيخنا محدث زمانه الألباني في { ضعيف الجامع }[3] ..

ثم أن هذا القول ليس المُراد به التشكيك كما فهمه بعض الناس ( ! ) إنما يُقصد به على عدم حفظهم لما بعد { عدنان } رغم أن كثير من العلماء كالبخاري وابن إسحاق في { السيرة } جواز الرفع ..

ثم نقول لمن يحتج بهذا الخبر في { البُعد الزمني } هل عدنان من إسماعيل ؟! .. سيقول لك فوراً : نعم ، إذن لا مكان لشبهتك هُنا ، فبين عدنان وإسماعيل زمن طويل ، ومع ذلك شَّهِدتَ بِأنَّ عدنان من إسماعيل ـ عليه السلام ـ ، فإن كان سلسلة النسب لم تُحفظ ليس دليلاً على عدم حفظ الأصل ..

فعدم الحفظ لا يُقصد به التشكيك والنفي ( ! ) كما قلنا آنفاً قبائل البادية اليوم الكثير منهم لا يحفظون سلسلة أنسابهم إلى جذمهم القديم ولكن يشهد لهم كل العلماء في ثبوت نسبهم لذاك الجذم .. ولو أخذنا بهذه القاعدة ( البعد الزمني ) لنسفنا كل أنساب العرب اليوم ولم يبق عربياً واحداً..
والأشراف الصُرحاء اليوم في الحجاز ومصر والأردن وغيرها من البلدان يشهد لهم كل العلماء في ثبوت نسبهم ، حيث تملكوا الـ { استفاضة النظيفة والشهرة السليمة من النقض والجرح والمخالفة } وغَرَّدت كل كتب النسب بتدوين أنسابهم وأخبارهم ، فانساب الأشراف محفوظة ، ولهذا كل من زعم أنه هاشمياً زوراً كُشف بسرعة وذلك لأن كتب النسب جمعت أنسابهم فمن لم يُذكر في هذه الكتب يُعرف أنه { دخيل ـ لفوفة ـ  } .

ومن هذه الأسباب أن { المهدي } منهم ، فسارع العلماء وكذلك الأشراف أنفسهم لتدوين أنسابهم ، فقد أدعى الكثير { المهدية } وكُشف أمرهم وشُهر بهم ، فهذه الدولة العُبيدية اليهودية لحاً ، زعمت أنها علوية النسب ( ؟ ) فانقض عليها العلماء وكشفوا زيفهم ، فلو لم تكن الأنساب محفوظة لجاز للنطيحة والمتردية أن يدَّحش صُلبه في أي نسب شاء ( ! ) ولكن هيهات .. فالأنساب محفوظة ..

بل أن الأنساب باقية حتى في يوم القيامة ، فقد قال البغوي في { معالم التنزيل }[4] : (  وفي رواية عطاء عن ابن عباس : أنها الثانية فلا أنساب بينهم أي: لا يتفاخرون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتفاخرون في الدنيا، ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا: من أنت ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد أن الأنساب تنقطع.
فإن قيل: أليس قد جاء في الحديث: "كل سبب ونسب ينقطع إلا نسبي وسببي" .
قيل: معناه لا يبقى  يوم القيامة سبب ولا نسب إلا نسبه وسببه، وهو الإيمان والقرآن.
فإن قيل: قد قال هاهنا{ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } وقال في موضع آخر: "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" (الصافات -27) .
الجواب: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن للقيامة أحوالا ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف، فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون  .... ).

فالأنساب باقية حتى يوم القيامة بمعنى : ( المعرفة ) ولا يحصل التساؤل بينهما في الأنساب إلا على معرفة ، فيعلم أن ذاك ابن قبيلته وذاك من قبيلة كذا ، ولكن بلا تفاخر كحالهم في الدنيا ، وكما قال حِبر الأمة ابن عباس هناك مواطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون إفاقة ويتساءلون .

وكَتَبه :
أحمد بن سُليمان بن صَباح أبو بكرة التُرباني .




[1] ـ قد تراجع ابن جبرين عن هذا الكلام لكن أوردناه لأن بعض المُغرضين لليوم ينشروا مثل هذه الشُبه ، فالشيخ ابن جبرين لا يقصد الطعن بخلاف أهل الشغب فقصدهم الطعنُ والتَشكيك .  
 _ [2] قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) ( 6/432) عند حديثه عن مناقب { عبد الله بن سلام } : ( من بني قينقاع وهم من ذرية يوسف الصديق ) .
[3] ـ ( 4351 ) .
[4] ـ ( 1/231) .